لماذا نتعب بعد زيارة الأقارب؟
كلّما حضر أقاربي، أشعر بموجة من الفرح والدفء
في بداية اللقاء، لكنّ هذا الشعور لا يدوم أكثر من عشر دقائق. بعدها، يبدأ صداع خفيف،
رغبه في الانعزال، أحيانًا رغبة مفاجئة في النوم. لم أفهم السبب في البداية، رغم
أنّهم من أحبّتي… ثمّ بدأت أبحث، فوجدت أن الحبّ لا يمنع التعب، وأنّ القرب لا
يعني راحة دائمًا. في هذا المقال أتناول – عزيزي القارئ – سبب هذا الشعور من
الناحية العلمية والنفسية، آملاً أن تشعر/ي بأنك لست وحدك.
المشكلة التي بدأت بها
منذ أن أدركت هذا النمط: زيارة أقارب تُثير
بداخلي أولًا حماسًا، ثمّ بعد دقائق قليلة تبدأ ملامح “التعب الاجتماعي” بالظهور.
على الرغم من أنّ الجو ودود، والموقف مبهج ظاهريًا، إلّا أنّي أستلقي بعدها أو
أغلق باب غرفتي، وأتساءل: لماذا؟ لماذا فقط مع الأقارب؟ لماذا يحدث هذا رغم أنّي
أتحمّس للزيارة او لضيافتهم؟
لماذا نشعر بالتعب من الناحية البيولوجية؟
عند الدخول في تفاعل اجتماعي، يبدأ الدماغ
والجهاز العصبي بزيادة نشاطهما: نرفع اليقظة، نراقب الكلام، نمعن النظر في الوجوه،
نتمعّن في نبرتهم. هذا يقود إلى إفراز هرمونات مثل الأدرينالين والدوبامين التي
تمنح شعورًا أوليًا باليقظة والمكافأة.
لكن هذا النشاط المستمر “يستهلك” طاقة عصبية –
ومع استمرار اللقاء، تنخفض مستويات الأدرينالين/الدوبامين، ما قد يفضي إلى “هبوط”
أو “انهاك” يشعر
الفرد بالتعب والثقل الذهني والرغبة في الجلوس وحده وهذا ما يعرف اليوم باسم
الإرهاق الاجتماعي، حتى لو كان اللقاء ممتعا او بسيطا
الإرهاق الاجتماعي
الإرهاق الاجتماعي هو شعور بالتعب الذهني والعاطفي
بعد قضاء وقت طويل في التفاعل مع الآخرين. قد يشعر الشخص عندها بانخفاض الطاقة، صعوبة
في التركيز، رغبة في الانعزال، وأحيانًا تراجع المزاج. يحدث هذا لأن الدماغ يبذل جهدًا
كبيرًا لفهم الآخرين، متابعة المحادثات، مراقبة كيف يظهر أمامهم، والتعامل مع اختلاف
شخصياتهم وضغوط الموقف.
ليس طول الزيارة هو الذي يحدد مدى الإرهاق، بل
شدة النشاط الذهني والانفعالي الذي يحدث في الدقائق الأولى من التفاعل. أحيانًا تكون
هذه الدقائق الأولى هي الأكثر استنزافًا للطاقة.
وأيضًا نوعية الأشخاص الذين نلتقيهم تلعب دورًا
كبيرًا في شعورنا بالإرهاق الاجتماعي. فبعضهم يفرض علينا جهدًا أكبر في التفاعل، حيث
نضطر لمراقبة كلامهم، تفسير ردود أفعالهم، ومحاولة الظهور بصورة لائقة، مع توقع ما
قد يصدر منهم، وأحيانًا لأننا نحن من الشخصيات الحسّاسة اجتماعيًا، التي تتأثر بسهولة
بما يقوله الآخرون أو يفعلونه.
الشخصية الحسّاسة اجتماعيًا
هي تلك التي تلاحظ بدقة كل الإشارات الاجتماعية—مثل نبرة الصوت، تعابير الوجه،
مشاعر الآخرين، التوترات الخفية، والأجواء المحيطة. هؤلاء الأشخاص يلتقطون ويفهمون
هذه الإشارات بشكل أعمق وأسرع من غيرهم، مما يجعلهم دقيقين ومرهفي الانتباه، لكنه
أيضًا يجعلهم أكثر عرضة للإرهاق الاجتماعي.
والشخصية الحساسة اجتماعية سمة شخصية موجودة بدرجات
متفاوتة بين الناس
من صفات الشخصية الحساسة
اجتماعيًا سرعة الملاحظة والبديهة، حيث يلتقطون تعابير وجوه
الآخرين ونبرات أصواتهم بسرعة. لديهم فهم عميق لمشاعر الآخرين وتعاطف كبير،
ويميلون لتوقع ردود أفعالهم والاستجابة لها بحساسية. كل هذه الصفات تجعلهم في حالة
يقظة دائمة، وتحليلهم للمواقف يكون أحيانًا مبالغًا فيه. حتى 10 أو 20 دقيقة من
التفاعل قد تُرهقهم، لأن دماغهم يعمل بتركيز شديد لمراقبة الآخرين، ومع كثرة
المعلومات والضجيج المحيط، يصبح الوضع مزعجًا ومرهقًا لهم.
لماذا نشعر بالتعب من الناحية النفسية؟
يفسر
العلاج المعرفي‑السلوكي أن التعب النفسي بعد لقاء الأقارب يحدث بسبب الأفكار
المبالغ فيها والتحليل المستمر لكل كلمة أو تصرف، مثل التساؤل: "هل فهمني
بشكل صحيح؟ هل كانت نبرتهم حادة؟ ماذا سأرد بعد أن يسكت؟" كل هذه العمليات
الفكرية تجهد الدماغ بسرعة.
اما التحليل النفسي
يرى أن التعب الاجتماعي انعكاس لعلاقات قديمة وتجارب الطفولة.
يفسر هذا التعب على أنه نتيجة توترات داخلية
مثل: الرغبة في القبول من الآخرين والخوف من الرفض أو الخطأ أثناء التفاعل.
بعبارة أخرى، عندما تشعر بأنك مضطر لأن تكوني
مقبول أو محترم أمام الأقارب، فإن هذا الصراع النفسي الداخلي يستهلك الطاقة
العقلية والعاطفية بسرعة.
التحليل النفسي يوضح أن الحساسية الاجتماعية
ناتجة عن أنماط تربوية وعلاقات أسرية قديمة، أي أن بعض الانفعالات الحالية هي
إعادة تفعيل لتجارب طفولية أو ذكريات قديمة، وليست مجرد سمة عابرة أو ظرف مؤقت.
مثال: شعورك بالضغط عندما يسأل أحد الأقارب عن
عملك أو حياتك الشخصية قد يكون مرتبطًا بتجارب طفولية شعرت فيها بعدم القبول أو
الخوف من النقد، وليس فقط بسبب السؤال نفسه.
التفسير الثقافي في السياق العربي
- في
مجتمعاتنا، العلاقة مع الأقارب غالبًا مُثقلة بتوقعات: كيف تظهر؟ متى تتزوج؟
متى تنجحين؟ لماذا لم تُنجزْ كذا؟ هذا “الخلفية الثقافية” تضيف طبقة ضغط
إضافية للتفاعل.
- أحيانًا
يُربط التعب بعد الزيارات بـ “العين” أو “الحسد” من وجود عدد من الأشخاص في
المنزل – من وجهة نظر ثقافية.
- كذلك،
في بعض البيوت، اللقاء العائلي لا يكون مجرد تجمّع، بل “مهمة اجتماعية”:
كأننا على خشبة مسرح يُشاهدنا الناس، ونسعى لأن نبدو في أفضل حال. ما يُشبه
أداءً أمام الجمهور، وليس تفاعلًا نقيًا ومريحًا.
لماذا نشعر بالارتياح مع “الغرباء” عادة ولا نشعر بالإرهاق كما يحدث مع الأقارب؟
مع الغرباء أو الأصدقاء الذين نختارهم، غالبًا
لا توجد توقعات كبيرة نكون أكثر “عفوية”.
العلاقة تكون غالبًا خفيفة: لا نتابع “كيف ينظرون
إليّ؟” كثيرًا، ولا يكون هناك خلفية اجتماعية طويلة أو ماضٍ.
بالتالي الجهاز العصبي لا يكون في حالة “تحذير
خلفي” أو “مراقبة متواصلة”.
كما أنّ الزيارة قد تكون أقصر، الدور الاجتماعي
أقل تعقيداً. كل ذلك يساعد على أن تكون التجربة أقل إرهاقاً.
هل التعب مقصور على الأقارب أم يشمل جميع الناس من نقابلهم؟
التعب الاجتماعي ليس محصورًا بالعائلة أو الأقارب،
بل قد يحدث مع أي تفاعل يتطلّب جهداً أكبر من المعتاد. تشير الدراسات إلى أن الأشخاص
ينجم عن التفاعل الاجتماعي المطوّل أو المكثّف – حتى مع أصدقاء أو زملاء – شعور بـ
“الإرهاق الاجتماعي” أو “الإنهاك الاجتماعي”. (Orentas,
2021)
لكن ما يُميّز لقاء الأقارب أنّه غالبًا يجمع بين:
التاريخ، التوقعات، علاقة غير محايدة (أي ليست “أجنبيًّا مرحّبًا به فقط”) مما يُزيد
العبء.
يعود لعدة عوامل:
توقعات اجتماعية مستمرة: كيف أتصرف؟ ماذا أقول؟
وهل سيفهم كلامي بطريقة خاطئة؟
مقارنة أو أحكام ضمنية: مثل “ليش كذا لبستِ؟ متى
تتزوجين؟ متى تشتغلين؟”
ذكريات أو مشاعر قديمة وغير مريحة أحيانًا.
بالتالي، ليس تفاعل الأقارب بحد ذاته هو المشكلة،
لكن “النوع” من التفاعل (حيث يكون هناك مراقبة، تحفظات، توقعات، ربما ذكريات) هو الذي
يرفع من احتمال أن تشعري بهذا التعب.
مشكلات مشابهة
الحالة الأولى: التعب قبل استقبال
الزوار
أشعر بتعب وخمول شديد قبل أن يزورني أي شخص،
حتى لو كنت متحمسة له ومجهزة كل شيء مسبقًا. على سبيل المثال، عندما علمت أن حماتي
(أخت زوجي) ستأتي، حضرت الحلويات والمقبلات والقهوة منذ الظهر، ومع ذلك شعرت بثقل
في جسدي وصداع، ولم أستطع حتى تغيير ملابسي. الغريب أنني اجتماعية جدًا وأندمج
بسرعة مع الآخرين، ومع ذلك يهاجمني هذا التعب قبل الزيارة مباشرة، رغم أن الظروف
كلها مهيأة وأنه ليس هناك ما يسبب الإرهاق جسديًا أو عمليًا.
الحالة الثانية: الإرهاق المفاجئ
قبل الزيارة أو الخروج
أحيانًا يحدث التعب المفاجئ حتى عندما أكون
متحمسة للقاء شخص ما، سواء صديقة، أخ، أو أحد أفراد العائلة. في اليوم نفسه من
الموعد، أشعر بثقل الرأس، صداع غريب، وخمول كأنني لم أنم، وأحيانًا أرغب بالنوم
فورًا. أغصب نفسي على التحرك، وبمجرد بدء اللقاء يخف التعب بعد عشر إلى ربع ساعة.
حتى عند التفكير في الخروج أنا أشعر بالتعب
والصداع، وأحيانًا ألغي خططي بالكامل، رغم أن أيامي العادية مليئة بالنشاط، فأرتب
المنزل، أطبخ، وأقوم بكل مهامي اليومية بسهولة. يحدث هذا التعب رغم حبي للناس
والجمعات، وقد أصبحت أختار البقاء في المنزل لأيام أو أسابيع إذا لم يكن هناك
ضرورة للخروج.
الحالة الثالثة: الإرهاق الممتد
أثناء التفاعل الاجتماعي الطويل
إذا استمر اللقاء لفترة أطول، خاصة مع
الأقارب، أشعر بأعراض أشد: صداع قوي، خمول عام، أحيانًا طنين في الأذن، وألم عام
مع رغبة شديدة في النوم. هذا يحدث رغم أن نفسيتي تكون جيدة، ويدرك زوجي أنني لا
أستطيع الجلوس لفترة طويلة. الغريب أن التعب يختفي بعد مرور دقائق من التفاعل،
لكنه قبل أو أثناء التوقعات يظل شديدًا، ما يجعلني أحيانًا أغصب نفسي على التحرك
والجلوس، رغم شعوري بثقل في الجسم والرأس.
واخيرا
التعب
هو نتيجة لتفاعل معقد بين البيولوجيا استهلاك الطاقة العصبية، النفسية
المراقبة الذاتية، التوقعات، الخلفية العائلية، والثقافية توقعات العائلة،
التاريخ الاجتماعي
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا
تَشْكُرُونَ﴾
[ الملك:
23]
– تذكير بأنّ الإنسان ليس مجرد جسد فحسب، بل له
سمع وبصر وأفكار ومشاعر هي التي تُجهد أحيانًا.
إذا لاحظت هذا النمط، فأبدئ بطرح الأسئلة: متى يحدث، مع
من، ما الذي يبدأ أولًا – ثم يمكن بناء “استراتيجية
صغيرة” (مثل وقت استراحة بعد نصف الساعة، أو التخفيف من المراقبة الذاتية، أو
تغيير المكان)
ملاحظة أخيرة: إذا كان هناك ألمٌ مستمر، أو خمول شديد، أو
افكار مكتئبة بشكل كبير – فقد يكون الأمر متعلقًا بـ اكتئاب
أو اضطراب القلق الاجتماعي أو حالة طبية
– فيُنصح باستشارة مختص نفسي أو طبي.
المراجع
Aron,
E. N., & Aron, A. (1997). Sensory-processing sensitivity and its
relation to introversion and emotionality. Journal of Personality and
Social Psychology, 73(2), 345–368. https://doi.org/10.1037/0022-3514.73.2.345
LeggUP.
(n.d.). What is social fatigue and how can you manage it? Retrieved from https://www.leggup.com/articles/social-fatigue
Orentas, G.
(2021, June 2). How to deal with social exhaustion
when you’re an introvert. Psych Central.
https://psychcentral.com/blog/social-exhaustion-avoiding-introvert-burnout
Cleveland Clinic.
(2023, January 20). What is a highly sensitive person
(HSP)? Health Library – Mental Health Conditions. Retrieved from https://health.clevelandclinic.org/highly-sensitive-person
