البخل بين الذم الاجتماعي والتبرير العقلي: قراءة في نوادر الجاحظ
ولقد
اجتمعت الأمم كلها على ذم البخل وحمد الجود، وقالوا: "أفضل الجُود الجود
بالمجهود" ولم تر أمة قط أبغضت جوادا قط ولا حقرته على خلاف البخل وجدناهم
يبغضونه ويحتقرونه.
والبخيل
ليس هو الذي لا يبخل على نفسه فقط، بل إن في نظر الناس يسمون البخيل بخيلًا إذا لم
ينفعهم او يساعدهم بشيء من ماله او خيرة
والبخل
الحقيقي هو ان تمتنع عن العطاء او المشاركة في الأمور التي فيها شكر من الناس وذكر
حسن وثواب من الله. فالعطاء ليس فقط بالمادة، بل قد يكون في الكرم او الضيافة او
المساعدة او حتى الكلمة الطيبة.
ولقد ذكر
الجاحظ في كتابة البخلاء يصف فيه عاداتهم وطباعهم ومن بعض هذه النوادر
والقصص قصة ابي سعيد المدائني الذي كان معروفا بأنه أماما في البخل فبما
ورد عنه بأنه "اجتمع أبو سعيد يوماً بأصحابه من البخلاء، الذين كانوا
يتشاورون بينهم في إصلاح شؤون أموالهم. فسألوه عن أمر حيّرهم طويلاً: "يا أبا سعيد، نراك تخرج
كل يوم إلى قرية بعيدة، كل ذلك لأجل أن تسترد ديناً لا يتجاوز خمسة دراهم! أفلا ترى
أن في ذلك إنهاكًا لبدنك، وأنت رجل مسنّ؟ فلو أنك أجهدت نفسك في الطريق، لاحتجت إلى
عشاء يُقوّيك، فإن لم تكن من أهل العشاء، اضطررت إليه. وإن أكلتَ أثقلتَ معدتك مرضت وإذا مرضتَ
أنفقت على الدواء أكثر مما تطلبه من الدراهم الخمس! ألا ترى أن الأولى بك أن تطالب
المدينين القريبين منك، قبل أن تُجهد نفسك في اللحاق بذلك البعيد؟ ثم إنك تمرّ في طريقك
بالسوق، حيث الزحام والدفع والجذب، فتتسخ ملابسك، ويتلف حذاؤك، وكل ذلك خسارة فوق خسارة.
فهلا أخبرتنا عن سبب هذا العناء كله؟"
فرد
عليهم قائلا:
"أما
ما ذكرتم من ضرر كثرة الحركة، فإني والله أخشى على بدني من الراحة لا من التعب، فإنّ
أصحّ الناس أبدانًا هم الحمالون لا المتكئون.
وأما ما
قلتم عن الحاجة إلى العشاء مخافة الضعف، فقد عودت نفسي على مقدار ثابت من الطعام، لا
أزيده، وإنها والله حاسبتني في أيام الشدة على ما نعمَت به في أيام الرخاء.
وأما ديني
عند ذلك المدين البعيد، فإني لا أذهب إليه إلا بعد أن أفرغ من جميع المدينين القريبين،
ولأضرب للناس مثلاً، أني أطالب بالقليل كما أطالب بالكثير، حتى لا يطمع أحد في مالي،
قريبًا كان أو بعيدًا.
وأما زحام
السوق، فإني أختار وقتاً يخلو فيه من الناس. وأما ملابسي وحذائي، فهما في حوزتي، لا
ألبسهما إلا عند اقترابي من باب المدين، فإذا خرجت، خلعتُهما، فبهذا أحفظهما من البلى
وأدفع عنهما التلف."