لماذا يطيع الإنسان أوامر تتعارض مع أخلاقه؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن الإنسان، بعقله وقدرته قادر
على التمييز بين الصواب والخطأ، وسيختار دائمًا جانب الصواب. ولكن الواقع أكثر تعقيدًا
بكثير. فمفاهيم مثل "الصواب" و"الخطأ" لا تُولد معنا، وكذلك "الطاعة" و "الأخلاق" إنها تعلم
اجتماعي وثقافي يتطور عبر التفاعل مع البيئة والأشخاص.
وقد طُرِح سؤال جوهري في علم النفس الاجتماعي
هل يمكن لأشخاص عاديين أن يرتكبوا أفعالًا لا إنسانية لمجرد
أن شخصًا ذا سلطة طلب منهم ذلك؟
وللإجابة على هذا السؤال، أجرى عالم النفس الشهير ستانلي
ميلغرام تجربة استثنائية: أحضر مجموعة من المشاركين العاديين، وأوهمهم بأنهم يشاركون
في دراسة حول "التعلم والذاكرة". طُلب من كل متطوع أن يجلس أمام جهاز لصدمات
كهربائية، ويلعب دور "المُعاقِب". وفي الغرفة الثانية، جلس شخص آخر يلعب
دور "المُتعلم"، وكلما أخطأ في إجابة معينة، يُطلب من المتطوع أن يضغط على
زر لصعقه كهربائيًا، مع زيادة شدة الصدمة في كل مرة، بدءًا من 15 فولت، حتى تصل إلى
450 فولت.
لكن ما لم يكن يعلمه المشاركون هو أن "المتعلم"
لم يكن يتعرض لأي صدمة فعلية، بل كان ممثلًا يُصدر صرخات مزيفة، يتوسل، ويصرخ بألم،
وأحيانًا يصمت تمامًا كأنه فارق الحياة. في هذه اللحظات، كان المتطوعون يترددون، يشعرون
بالذنب والتوتر. ولكن بجانبهم، يقف رجل يرتدي معطفًا أبيض – رمز للسلطة العلمية – يقول
لهم:
"الرجاء الاستمرار"
"التجربة تتطلب ذلك"
"من الضروري أن تُكمل"
والنتائج كانت أكثر من 65% من المشاركين استمروا في الضغط
حتى آخر مدى، حتى 450 فولت، رغم الألم، ورغم الصراخ، ورغم شكّهم أن الشخص الآخر قد
يكون مات. بعضهم بكى، ارتبك، تردد… لكنهم أطاعوا.
هذه التجربة، وغيرها من الحوادث التاريخية، تفتح الباب لسؤال
جوهري: لماذا يطيع الإنسان أوامر تتعارض مع أخلاقه؟
هل نحن مجرد ضحايا لضغوط اجتماعية تفوق قدرتنا على المقاومة؟
أم أن الطاعة متأصلة في تركيبتنا النفسية؟
الحقيقة أن الطاعة ليست فعلاً بسيطًا كما نعتقد. إنها متجذّرة
في أسس الهوية والولاء، تبدأ في الطفولة من علاقة الطفل بالأم والأب، حيث يطيع لأن
بقاءه يعتمد على ذلك. ومع الزمن، تتحول هذه الطاعة إلى نمط نفسي، مدعوم بما نمنحه من
شرعية للسلطات: الأم، الأب، المعلم، رجل الدين، الدولة.
في المراحل المبكرة، تشكّل السلطة ضمير الطفل، ولكن لاحقًا،
يُفترض أن ينمو هذا الضمير ويستقل. وعندما يصبح الأنسان راشدا لا تصبح الطاعة تلقائية،
بل تخضع لمراجعة ذاتية، ولكن لو كانت الأم التي تعلّم ابنها أن يكون خيرًا، قد تكون هي نفسها من تطلب منه
لاحقًا أن يرتكب فعلًا شريرًا، باسم "الحماية" أو "الولاء".
فهل يطيع؟
الجواب يعتمد على: هل تشكّلت لديه "أخلاق داخلية"
أم أنه ما يزال يعيش تحت تأثير "أخلاق السلطة"؟
لكن الطاعة لا تقف دائمًا عند حدود المنطق أو الأخلاق. في
بداياتها، قد تنبع من الخوف من العقاب، لكنها في أعلى مراحل النضج الأخلاقي، تتحول
إلى التزام بالمبادئ الكونية كالعدالة والكرامة – حتى لو خالفت أوامر القانون أو السلطة.
الإنسان الذي يبلغ هذا المستوى لا يطيع لمجرد الطاعة، بل يزن الفعل بميزان ضميره، لا
بميزان من أمره به.
فإن كان الخوف في نفس الإنسان من العقاب هو ما يدفعه للطاعة،
فلهذا تفسير سلوكي بيولوجي يعود إلى ما يُعرف باستجابات "الكرّ أو الفرّ أو الجمود"،
وهي أنماط دفاعية فطرية أمام الخطر، بينما في منظور فرويد، الطاعة قد تنبع من خوف أعمق:
الخوف من فقدان الحب.
لكن… ماذا لو لم يكن هناك عقاب؟
ولا توجد فائدة من الطاعة؟
ولا دخل للدين أو المعتقدات؟
هل سيظل الإنسان يطيع أمرًا يتعارض مع أخلاقه؟
ميلغرام أجاب عن هذا.
في تجربته، لم يكن هناك تهديد بالعقاب، ولا وعود بجائزة،
ولا حتى أي دافع ديني أو أيديولوجي واضح.
مجرد وجود شخصية
تمثل سلطة علمية، كان كافيًا لتحفيز المشاركين على مواصلة تنفيذ الأوامر. ومع ذلك،
أطاع معظم المشاركين، حتى وهم يظنون أنهم يقتلون إنسانًا بريئًا.
ما تظهره هذه التجربة ليس مجرد ضعف الإنسان أمام السلطة،
بل يكشف عن هشاشة الضمير والخوف من مخالفة المعايير المتوقعة اجتماعياً والتي يُعتقد
أنها صحيحة، بغض النظر عن حقيقتها الأخلاقية.
فالإنسان لا يواجه السلطة الخارجية فقط، بل يصارع داخليًا
صورته الذاتية كفرد "أخلاقي" و"صالح". والمفارقة المؤلمة تكمن
في أن العديد من الأشخاص يفضلون الحفاظ على هذا التصور عن أنفسهم كمطيعين وصالحين،
حتى لو كان ذلك يتطلب منهم ارتكاب أفعال تُلحق الأذى بالآخرين.
وهنا تظهر الآلية النفسية الأخطر:
نقل المسؤولية.
المشارك في تجربة ميلغرام لم يكن يرى نفسه مسؤولًا. بل كان
يقول لنفسه: "أنا فقط أنفذ التعليمات. إن حدث خطأ، فاللوم على المسؤول، لا عليّ."
هذه الآلية ليست غريبة علينا؛ فهي نفس الذريعة التي يستخدمها
أفراد كثيرون في مواقف مختلفة، سواء كانوا منفذين لأوامر في أنظمة قمعية أو موظفين
يتجاهلون الظلم داخل مؤسساتهم، إذ يبررون أفعالهم بالقول: "أنا فقط أنفذ التعليمات".
لكن ماذا يحدث عندما تتصادم الطاعة مع الضمير الأخلاقي؟ حين
يصبح السلوك المطيع في صراع مع القيم الداخلية؟
في هذه اللحظة، يواجه الفرد صراعًا داخليًا عميقًا:
بين الصورة التي يحملها عن نفسه كإنسان ذو مبادئ، وبين السلوك
الذي يُجبر عليه بموجب النظام أو السلطة.
بين القيم التي تربى عليها، وبين الضغوط التي تدفعه للامتثال.
وفي كثير من الأحيان، تميل هذه المعركة لصالح النظام، فتسود
الطاعة على الضمير.
ولكن لا يجب أن يكون هذا قدرنا. فالوعي بهذه الآليات النفسية
– الطاعة، نقل المسؤولية، التبرير – هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها.
أن نفهم أن الطاعة ليست دائمًا فضيلة، وأن الرفض أحيانًا
هو أعلى أشكال الأخلاق.
أن نربي أنفسنا وأطفالنا على أن يكون الضمير حيًا لا تابعًا،
وأن نسأل دائمًا:
"هل ما أفعله حقًا صواب، أم فقط ما قيل لي إنه كذلك؟"
لأن الطاعة، حين تُمارس دون تفكير، قد تصنع طغاة لا يدركون
أنهم طغاة، وجناة لا يشعرون بأنهم أذنبوا.