حيلة المدنية الفارغة، تشو قه ليانغ

وفاء عبدالله
الصفحة الرئيسية

 

حيلة المدنية الفارغة، تشو قه ليانغ

حيلة المدنية الفارغة، تشو قه ليانغ


حيلة المدنية الفارغة، تشو قه ليانغ

تشو قة ليانغ او ما يسمى بالتنين النائم، المستشار الأعلى لمملكة تشو في عصر الممالك الثالث (220-280) أحد أبرز العقول الاستراتيجية في التاريخ، سياسي ومفكر ومخترع وعالم، يعتبر رمزا للذكاء وسعة الحيلة.

قول مأثور عند الصينين

«عقول ثلاثة إسكافيين تعادل عقل تشو قه ليانغ»

عاش في أكثر الفترات اضطرابًا في التاريخ الصيني، حيث ظهرت ثلاث ممالك في تلك الفترة وهي؛ مملكة «وي» ومملكة «تشو» ومملكة «وو» في القرن الثالث الميلادي تقريبا، وقد دارت بينها حروب طويلة؛ بهدف توحيد الصين.  

كان تشو قه ليانغ في مدينة شيتشنغ جنرالًا يدير المدينة ومعه 5الالف جندي، وبطبيعة الحال أرسلت مملكة «وي» الجنرال سي ما يي لغزو هذه المدينة وكونت جيشًا من 150الف جندي، لم يستطع تشو قه ليانغ ان يجمع جنود آخرين لضيق الوقت وجيش العدو خارج المدينة، وعلى ما يبدو ان الهزيمة كانت واضحة للغاية وهنا نفذ تشو قه ليانغ حيلة المدينة الفارغة للقضاء على عدوة

تفاصيل حيلة المدينة الفارغة

عندما وجد تشو قه ليانغ نفسه في مدينة خالية تقريبًا من الجنود، وسط تقدم عسكري مفاجئ من القائد سيما يي، كان أمام خيارين: الهرب أو المواجهة المباشرة، وكلاهما كان يعني الهزيمة المحققة. لكن بدلًا من ذلك، امر بفتح أبواب المدينة واخفاء جميع الاعلام الحربية ووضع على كل باب عشرين جنديا بملابس العامة من الناس وتسلق تشو قه ليانغ برج البوابة يحمل أداة موسيقية وجلس هناك يعزف الموسيقى.

أقبلت مقدمة جيش العدو فوجدت المدينة على ماهي علية فخاف الجنود من الهجوم، وارسلوا إلى الجنرال سي ما يي تقرير على حال المدينة فاستغرب من ذلك فركب حصانة وجاء إلى بوابة المدينة ليرى تشو قه ليانغ على بوابة المدينة فأمر جنوده بالانسحاب على الفور؛ وذلك لان تشو قه ليانغ كان معروفا بحرصة الشديد ولم يحدث ان عرض نفسه لخطر او مغامرة وكونة يترك الآن أبواب مدينته مفتوحة فهذا يعني بالتأكيد ان هناك كمينا في الداخل هذا ما كان يفكر به الجنرال سي ما يي وهكذا انسحب الجيش.

الحيلة لم تعتمد على الجدران أو السلاح، بل على فهم دقيق لعقل العدو، ومن فنون الحرب إذا عرفت نفسك وخصمك جيدا تستطيع ان تتجنب الهزيمة.

 

 

الدلالات الرمزية والنفسية لحيلة المدينة الفارغة

هذا الحيلة وموقف الجنرال سي ما يي، عند تحليله نفسيًا، يكشف عن أبعاد عميقة في فهم السلوك الإنساني.

من وجهة نظر المدرسة السلوكية، يمكن تفسير الحيلة من خلال الارتباط الشرطي والخبرة السابقة. سي ما يي استجاب للمثير (الهدوء غير المنطقي وفتح الأبواب) بناءً على تجاربه السابقة مع الكمائن، أي أنه تعلّم أن السكون المفاجئ في أرض العدو غالبًا ما يعني فخًا. السلوك هنا ليس عقلانيًا بالضرورة، بل نتيجة شرطية متعلمة حفزت الانسحاب بدل المواجهة.

أما من وجهة نظر المدرسة الفرويدية، فالحيلة تلمس منطقة اللاوعي والغرائز الدفاعية. سي ما يي، تحت ضغط التهديد، لم يُفكر بشكل منطقي فقط، بل تفعّلت لديه آليات دفاع نفسية مثل الإسقاط والارتياب، فرأى في تصرف العدو ما يعكس صراعاته الداخلية ومخاوفه اللاواعية. تشو قه ليانغ، في المقابل، مثّل "الأنا العليا" المتحكمة، التي تفرض السيطرة على الانفعالات، وتعيد توجيهها بشكل متزن نحو تحقيق البقاء دون حاجة للهجوم.

أما من منظور مدرسة الجشطلت، فنحن أمام مثال واضح على كيفية تفسير العقل للكل لا للأجزاء المنفصلة. سي ما يي لم يرَ مجرد أبواب مفتوحة ورجل يعزف، بل صورة متكاملة تحمل دلالة ضمنية على وجود تهديد شامل. العقل البشري يبحث دائمًا عن المعنى الكامل، ولهذا أعاد تشكيل المشهد البصري الذي رآه ليصبح “كمينًا”، حتى في غياب الأدلة. هنا كانت عبقرية تشو قه ليانغ في تصميم صورة متكاملة من التضليل الإدراكي، توحي بما لا يوجد، وتستدعي استجابة ماحقة من عقلية تحلل الموقف وفق نمط Gestalt.

تحليل من وجهة نظر المدرسة المعرفية

من منظور المدرسة المعرفية، تُفسَّر حيلة المدينة الفارغة بوصفها تلاعبًا بالبُنى الإدراكية والتفسيرات الذهنية للخصم. وفقًا لهذه المدرسة، السلوك البشري لا ينتج فقط عن المثيرات أو الدوافع اللاواعية، بل يتشكل من خلال طريقة تفسير الفرد للموقف، والعمليات العقلية التي تُعالج المعلومات. في هذه الحالة، اعتمد تشو قه ليانغ على ما يُعرف بـ"التشويه المعرفي"، إذ صنع مشهدًا يناقض التوقعات المنطقية (مدينة مهددة ولكنها مفتوحة وهادئة)، ما أدى إلى ارتباك في التقييم الإدراكي لدى سي ما يي، الذي أعاد تفسير الهدوء على أنه مؤشر خطير بدلًا من أن يراه علامة ضعف.

كذلك يظهر ما يُعرف في علم النفس المعرفي بـ"التحليل القائم على المخططات الذهنية" (schemas)، حيث كان لدى سي ما يي مخطط معرفي مسبق بأن المدينة الهادئة في وقت الحرب = فخ. هذه المعالجة المعرفية جعلته يتخذ قرارًا خاطئًا (الانسحاب) رغم تفوقه العددي. أما تشو قه ليانغ، فقد استخدم معرفته بطريقة تفكير عدوه لصالحه، مما يعكس وعيًا عاليًا بالتفسير الذاتي للواقع، وهو جوهر النظرية المعرفية في فهم السلوك.

 

في النهاية، لم تكن الحيلة مجرد خطة هروب، بل منظومة معقدة من الفهم السلوكي واللاوعي والإدراك البشري. وهذا ما يجعلها درسًا خالدًا في علم النفس، يتجاوز سياقه العسكري، ليصبح مادة تحليل متعددة الزوايا حول كيف يمكن للعقل أن يُخدع حين يظن أنه يرى الحقيقة.

 

المراجع

تشانغ، مي وبي، يان لي.(2024). حكايات الأمثال والألقاب.(ترجمة مجموعة مترجمين بين الحكمة).مجموعة بيت الحكمة للثقافة.

 

google-playkhamsatmostaqltradent