الملابس كأداة نفسية واجتماعية
تُعدّ الملابس من الاحتياجات الإنسانية الأساسية
ووسيلة غير لفظية للتواصل، إذ يعكس أسلوب ارتدائها شخصية الفرد وهويته الاجتماعية
والثقافية. تتأثر اختيارات الملابس بالعوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ويتعلمها
الأفراد من خلال التنشئة الاجتماعية. مع ذلك، قد تتغير هذه العادات بفعل الأزياء
ووسائل الإعلام والتغيرات الثقافية (Dennis&
Monnie,2023)
لا تقتصر وظيفة الملابس على المظهر الاجتماعي، بل
تمتد لتؤثر على إدراك الفرد لجسده وسلوكه وعواطفه، إذ تعمل كالـ"جلد
الثاني" الذي يوسّع حضور الجسد في العالم. فالملابس الرسمية تعزز الانضباط
والثقة، بينما الفضفاضة تمنح شعورًا بالراحة والحرية، مما يوضح الدور العميق
للملابس في تشكيل تجربة الجسد والذات المتجسدة [هو مفهوم يدمج بين علم
النفس، الفلسفة، وعلم الأعصاب، ويشير إلى أن إدراك الإنسان لذاته لا ينشأ فقط من
العمليات العقلية أو الذهنية (مثل التفكير أو الذاكرة)، بل يتجسد أيضًا من خلال
الجسد كوسيط أساسي للخبرة والمعنى.]
فتصبح الملابس،
بمجرد ارتدائها، جزءًا من ذات الفرد وهويته، وبذلك تؤثر الملابس التي يرتديها
الشخص على تصوره لذاته، وبالتالي على سلوكه.
وحالما تؤثر الملابس على
سلوك الفرد، فإنها تمتد لتؤثر أيضًا على خياراته الحياتية واتخاذ قراراته اليومية.
فقد أظهرت دراسة Wang, Wang, Lei, & Chao
(2021) أن الأشخاص الذين ارتدوا ملابس رسمية كانوا أكثر ميلاً لاختيار أطعمة
صحّية، في حين أن من ارتدوا ملابس عفوية (غير رسمية) كانوا أكثر احتمالًا لاختيار
أطعمة غير صحّية. هذا يوضّح أن نمط الملابس يمكن أن يُفعّل خصائص داخلية مثل ضبط
النفس والانضباط، فتنعكس مباشرة على سلوكيات محددة مثل اختيار الطعام.
كما دعمت دراسات
كلاسيكية فكرة أن الملابس التي يرتديها الفرد تفعّل سلوكيات مرتبطة بالدور
الاجتماعي للزي. على سبيل المثال، أظهرت تجربة Johnson & Downing (1979) أن المشاركات الآتي ارتدوا زيّ
الممرضات تصرفوا بشكل أكثر رحمة وتعاطفًا، بينما من ارتدين زيّ أعضاء جماعة الكلو
كلوكس كلان أظهرن سلوكًا عدوانيًا أكبر. وبالمثل، لاحظ Frank & Gilovich (1988) أن الفرق الرياضية التي ارتدت
ألوانًا داكنة كانت أكثر ميلاً للارتكاب مخالفات عدوانية، وأن الحكّام كذلك كانوا
يقيّمون سلوك اللاعبين وفق تأثير الملابس.
إن الملابس تعمل كمؤشّر خارجي يُفَعّل توقعات
الفرد عن نفسه. عندما يرتدي الشخص ملابسًا رسميّة، قد يتوقع داخليًا التصرف بمزيدٍ
من الاحترافية؛ وبناءً على هذا التوقُّع يتغيّر سلوكه ليطابقه.
بهذا تتحوّل التوقعات الذاتية إلى نوعٍ من النبوءة
المحقّقة ذاتيًا (self-fulfilling prophecy):
الملابس تُنشئ صورة ذاتية والصورة تبلور توقّعات
الأداء والتوقّعات تُترجَم إلى سلوك
والسلوك يُعيد تأكيد الصورة. هذه العملية هي بالضبط ما توضحه نظرية
التوقُّعات الذاتية (Self-Expectancy Theory)، التي تفسر كيف تؤثر توقعات الفرد عن نفسه وعلى تصرفاته وقراراته
اليومية.
ولكن ذلك لا يعني ان عندما نشتري هذه الملابس
تقودنا للسلوك فلقد كتب دارن هاردي في كتابة The compound effect "نحن ندرك ان مجرد شراء أحذية ركض رائعة لا تجعلنا مستعدين
للماراثون، نحن جنس عقلاني؛ على الأقل هذا ما نقوله لأنفسنا"
الملابس وحدها لا تصنع الكفاءة أو الخبرة. ومع
ذلك، لا ينبغي تجاهل التأثير الداخلي الذي قد تسببه: ارتداء زي معين قد يغيّر
شعورك بنفسك ويمنحك نوعًا من الثقة أو التباهي، لكنه لا يعوّض عن التدريب والمعرفة
الفعلية.
فتخيل شخصًا يلبس زيًّا عسكريًا ويحمل صفّ نقيب
أو لواء؛ الآخرين سيعاملونه باحترام لأن البدلة والأوسمة تثير توقعات اجتماعية عن
السلطة. قد يبدأ هذا الشخص بالشعور بتفوّق داخلي، لكن هذا الشعور لا يجعل منه
قائدًا كفؤًا — إلا إذا اكتسب التدريب والمهارات اللازمة فعليًا. نفس الفكرة تنطبق
على تجربة (Bushman, 1988) عندما أمرت امرأة المارة وهي مرتدية زيًا رسميًا، زاد امتثال
الناس لها لأن الزي فعّل إدراكًا بالسلطة. الملابس تغيّر ما يرى الآخرون وما يشعر
به الفرد، لكنها لا تخلق الكفاءة من العدم.
ولكن ماذا عن الملابس الموحدة؟
تُعتبر الملابس الموحدة أداة ذات وجهين في الحياة
الاجتماعية. فمن جهة، تُظهر بعض الدراسات أن الزي الموحد يعزز الهوية الجماعية
والانتماء، ويمنح الأفراد شعورًا بالفخر لارتباطهم بمؤسسات كبيرة مثل المدارس أو
الهيئات المرموقة، حيث يعمل الزي هنا كرمز للنظام والانضباط والالتزام بالقواعد (Reidy et al., 2021). كما
أشارت أبحاث أخرى إلى أن ارتداء الزي المهني قد يرتبط بمشاعر إيجابية تتعلق بالفخر
والهوية المهنية، مثلما أظهرت دراسة Hong وآخرون (2019) في السياق الطبي.
في المقابل، قد ينطوي الزي الموحد على آثار
سلبية، إذ يمكن أن يؤدي إلى فقدان الإحساس بالفردية
(Albatayan & Alghamdi, 2024). كما
أن فرض الزي الموحد بشكل صارم، أو تصميمه بطريقة غير مريحة، قد يترك أثرًا نفسيًا
سلبيًا على الأفراد ويقلل من رضاهم أو شعورهم بالراحة.
ورغم هذه المفارقة، يظل للزي الموحد دور اجتماعي
بارز في التمييز بين المهن والوظائف؛ فهو الذي يجعل الطبيب مختلفًا عن الجندي،
والطالب عن العامل. وفي المدارس تحديدًا، يُلزم الطلاب بارتداء زي موحد لتقليل
الفوارق الطبقية بينهم وتعزيز المساواة الظاهرية
(Baumann & Krskova, 2016).
ومن منظور تاريخي، لا يمكن فصل الملابس عن بعدها الطبقي؛ إذ كانت دومًا ....
الملابس أداة للتمييز الطبقي،
حيث اتسمت ملابس الطبقات الثرية أو الحاكمة بالزخرفة والترف، في حين
اقتصرت ملابس الطبقات الدنيا على الأزياء البسيطة والعملية
ولكن كيف أصبحت الملابس أو قطعة القماش التي
نرتديها وسيلة لتمييز الأفراد عن بعضهم البعض، وفي ظل العصر الحديث، حيث بات
بالإمكان شراء الملابس الفاخرة بأسعار أقل أو تقليدها، هل ما زالت الملابس تعكس
التمايز الطبقي أم أصبحت في متناول الجميع وتفقد وظيفتها كأداة للتمييز
الاجتماعي؟"
في عصرنا الحالي، يبدو الجواب معقدًا بعض الشيء،
لأن الملابس الفاخرة لم تعد حكراً على الأغنياء فقط. يمكن لأي شخص شراء نسخ مقلدة
بأسعار أقل، وحتى مساواة الأغنياء في بعض الملابس. فهل هذا يعني أن الملابس لم تعد
أداة للتمييز الطبقي؟ الجواب يكمن في التفاصيل الدقيقة: الأصالة، الذوق، المعرفة
بكيفية ارتداء الملابس، وسياق استخدامها، كل ذلك لا يزال يخلق فوارق بين الطبقات.
فالزي ليس مجرد قماش، بل رمز، والجسد الذي يرتديه يُصبح لوحة اجتماعية تحكي عن
المكانة والفكر والثقافة.
إذن، حتى في عصر
"الديمقراطية الاستهلاكية"، حيث الكل يستطيع شراء نسخة من الموضة، يبقى
اللباس وسيلة لتمييز الطبقات. صحيح أن الفوارق قد تكون أكثر خفاءً من الماضي (ليست
ذهبًا وتيجانًا كما في عهد نيقولا الثاني)، لكنها ما زالت موجودة في الأصالة،
الذوق، التوقيت، والسياق الاجتماعي لتذكير الجميع بالفوارق الاجتماعية. وفي
السياق الحديث، مثل العشاء الرسمي الذي شارك فيه الرئيس ترامب والسيدة الأولى
(ميلانيا ترامب) تظهر القاعة الفخمة المزينة بالزهور، والملابس الرسمية الباهظة،
والاستعراض الرمزي بالخيول، كلها أدوات بصريّة لعرض القوة والسلطة والاقتصاد،
وتجسيد التفوق الرمزي للطبقة الحاكمة. (The White House, 2025)
بالعودة إلى سؤالنا الأساسي: هل يؤثر ارتداء ملابس محددة—سواء كانت
موحدة، زيًا ملكيًا، ملابس الطبقات الثرية، أو ملابس الفقراء—على سلوك الشخص؟ وهل
يتصرف الفرد بما يتوافق مع نوع الملابس التي يرتديها؟
نعم، الدراسات النفسية والاجتماعية التي تم ذكرها
تشير إلى أن نوع الملابس يؤثر بالفعل على سلوك الفرد وتصوره لذاته. هذه الظاهرة
ترتبط بمفهوم الذات المتجسدة (Embodied Self)، حيث يصبح ما نرتديه جزءًا من هويتنا الظاهرية ويؤثر على سلوكنا.
الفرد يتصرف غالبًا بما يتوافق مع نوع الملابس
التي يرتديها، لأن الملابس لا تُظهر الهوية فقط، بل تُشكلها مؤقتًا أيضًا، سواء من
خلال إدراك الذات أو من خلال توقعات الآخرين. هذا يعني أن الملابس أداة
نفسية–اجتماعية قوية تتحكم في السلوك والتصور الذاتي والاجتماعي معًا..
المراجع
Albatayan, M., & Alghamdi, R. (2024). The
emotional and social impacts of uniforms on college students: Evidence from
Saudi Arabia. Journal of Business Review, 7(2), 101–115.
Baumann, C., & Krskova, H. (2016). School
discipline, school uniforms and academic performance. International Journal of
Educational Management, 30(6), 1003–1029
Dennis, A & Monnie, P. (2023). Clothing
selection and appearance of pro-vice chancellors: A case of University of Cape
Coast, Ghana. Social Sciences & Humanities Open 7(1) https://doi.org/10.1016/j.ssaho.2023.100490.
Entwistle, J. (2000). The fashioned body: Fashion,
dress and modern social theory. Polity Press.
Frank, M. G., & Gilovich, T. (1988). The dark
side of self- and social perception: Black uniforms and aggression in
professional sports. Journal of Personality and Social Psychology, 54(1),
74–85. https://doi.org/10.1037/0022-3514.54.1.74
Hong, Y. J., Park, S., Kyeong, S., & Kim, J. J.
(2019). Neural basis of professional pride in the reaction to uniform wear.
Frontiers in Psychology.
Johnson, K. L., & Downing, L. L. (1979).
Deindividuation and valence of cues: Effects on prosocial and antisocial
behavior. Journal of Personality and Social Psychology, 37(9), 1532–1538. https://doi.org/10.1037/0022-3514.37.9.1532
Reidy, J., Campbell, R., & Sliwa, S. (2021).
Reviewing school uniform through a public health lens: Evidence about the
impacts of school uniform on education and health. Public Health Reviews.
The White House. (2025, September 18). President
Trump and the First Lady Participate in a State Banquet. YouTube. https://www.youtube.com/watch?v=aeyNDd36pmg
Wang, X., Wang, X., Lei, J., & Chao, M. C. (2021). The clothes that make you eat healthy: The impact of clothes style on food choice. Journal of Business Research, 132, 787–799. https://doi.org/10.1016/j.jbusres.2020.10.051.